تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 7 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 7

7 : تفسير الصفحة رقم 7 من القرآن الكريم

** قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمّا يَأْتِيَنّكُم مّنّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالّذِينَ كَفَرواْ وَكَذّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
يقول تعالى مخبراً عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حين أهبطهم من الجنة, والمراد الذرية, أنه سينزل الكتب ويبعث الأنبياء والرسل كما قال أبو العالية: الهدى: الأنبياء والرسل والبينات والبيان, وقال مقاتل بن حيان الهدى: محمد صلى الله عليه وسلم, وقال الحسن: الهدى: القرآن, وهذان القولان صحيحان, وقول أبي العالية أعم {فمن اتبع هداي} أي من أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل {فلا خوف عليهم} أي فيما يستقبلونه من أمر الاَخرة {ولا هم يحزنون} على ما فاتهم من أمور الدنيا كما قال في سورة طه {قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتّبع هداي فلا يضل ولا يشقى} قال ابن عباس: فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الاَخرة {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى} كما قال ههنا {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} أي مخلدون فيها لا محيد لهم عنها ولا محيص وقد أورد ابن جرير ههنا حديثاً ساقه من طريقين عن أبي سلمة سعيد بن يزيد عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة عن أبي سعيد واسمه سعد بن مالك بن سنان الخدري, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أهل النار الذي هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون ولكن أقوام أصابتهم النار بخطاياهم فأماتتهم إماتة حتى إذا صاروا فحماً أُذن في الشفاعة» وقد رواه مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة به. وذكر هذا الإهباط الثاني لما تعلق به ما بعده من المعنى المغاير للأول, وزعم بعضهم: أنه تأكيد وتكرير, كما يقال: قم قم, وقال آخرون: بل الاهباط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا, والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض, والصحيح الأول, والله أعلم.

** يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيَ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوَاْ أَوّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيّايَ فَاتّقُونِ
يقول تعالى آمراً بني إسرائيل بالدخول في الإسلام, ومتابعة محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام, ومهيجاً لهم بذكر أبيهم إسرائيل وهو نبي الله يعقوب عليه السلام, وتقديره يا بني العبد الصالح المطيع لله, كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق كما تقول يا ابن الكريم افعل كذا, يا ابن الشجاع بارز الأبطال, يا ابن العالم اطلب العلم, ونحو ذلك. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكور} فإسرائيل هو يعقوب بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي, حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب, قال: حدثني عبد الله بن عباس قال: حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم, فقال لهم «هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب ؟» قالوا: اللهم نعم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اشهد» وقال الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن عمير مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس: أن إسرائيل كقولك عبد الله وقوله تعالى {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} قال مجاهد: نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى, وفيما سوى ذلك أن فجر لهم الحجر وأنزل عليهم المن والسلوى ونجاهم من عبودية آل فرعون, وقال أبو العالية: نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل, وأنزل عليهم الكتب, قلت: وهذا كقول موسى عليه السلام لهم {يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين} يعني في زمانهم, وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} أي بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجاهم من فرعون وقومه {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} قال: بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم أنجز لكم ما وعدتكم عليه من تصديقه واتباعه بوضع ما كان عليكم من الاَصار والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من إحداثكم. وقال الحسن البصري: هو قوله تعالى {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً, وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار} الاَية وقال آخرون: هو الذي أخذ الله عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبياً عظيماً يطيعه جميع الشعوب والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم فمن اتبعه غفر الله له ذنبه وأدخله الجنة وجعل له أجرين. وقد أورد الرازي بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمحمد صلى الله عليه وسلم, قال أبو العالية {وأوفوا بعهدي} قال عهده إلى عباده دين الإسلام وأن يتبعوه, وقال الضحاك عن ابن عباس: أوف بعهدكم ؟ قال: أرض عنكم وأدخلكم الجنة, وكذا قال السدي والضحاك وأبو العالية والربيع بن أنس, وقوله تعالى {وإياي فارهبون} أي فاخشون, قاله أبو العالية والسدي والربيع بن أنس وقتادة, وقال ابن عباس في قوله تعالى {وإياي فارهبون} أي إن نزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره, وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة لعلهم يرجعون إلى الحق واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والاتعاظ بالقرآن وزواجره وامتثال أوامره وتصديق أخباره والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم, ولهذا قال {وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم} يعني به القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي العربي بشيراً ونذيراً وسراجاً منيراً مشتملاً على الحق من الله تعالى مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل, قال أبو العالية رحمه الله في قوله تعالى {وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم} يقول: يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم, يقول لأنهم يجدون محمداً صلى الله عليه وسلم مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك, وقوله: {ولا تكونوا أول كافر به} قال بعض المعربين: أول فريق كافر به أو نحو ذلك, قال ابن عباس: ولا تكونوا أول كافر به وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم, قال أبو العالية: يقول: ولا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم, يعني من جنسكم أهل الكتاب بعد سماعكم بمبعثه, وكذا قال الحسن والسدي والربيع بن أنس, واختار ابن جرير أن الضمير في قوله به عائد على القرآن الذي تقدم ذكره في قوله {بما أنزلت} وكلا القولين صحيح لأنهما متلازمان, لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم, ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالقرآن, وأما قوله {أول كافر به} فيعني به أول من كفر به من بني إسرائيل, لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشر كثير, وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة, فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن فكفرهم به يستلزم أنهم أول من كفر به من جنسهم, وقوله تعالى: {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليل} يقول: لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها, فإنها قليلة فانية, كما قال عبد الله بن المبارك: أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن جابر عن هارون بن يزيد قال: سئل الحسن, يعني البصري عن قوله تعالى, ثمتأ قليلاً قال: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها قال: ابن لهيعة: حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليل} إن آياته كتابه الذي أنزله إليهم, وإن الثمن القليل الدنيا وشهواتها, وقال السدي: {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليل} يقول: لا تأخذوا طمعاً قليلاً, ولا تكتموا اسم الله, فذلك الطمع هو الثمن, وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليل} يقول: لا تأخذوا عليه أجراً, قال: وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابن آدم عَلّم مجاناً عُلمتَ مجاناً, وقيل: معناه لا تعتاضوا عن البيان والإيضاح ونشر العلم النافع بالكتمان واللبس لتستمروا على رياستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب, وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من تعلم علماً مما يبتغىَ به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة يوم القيامة» فأما تعليم العلم بأجرة, فإن كان قد تعين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه أجرة, ويجوز أن يتناول من بيت المال ما يقوم به حاله وعياله بأجرة, فإن لم يحصل له منه شيء وقطعه التعليم عن التكسب, فهو كما لم يتعين عليه, وإذا لم يتعين عليه فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد في قصة اللديغ «إن أحق ماأخذتم عليه أجراً كتاب الله» وقوله في قصة المخطوبة «زوجتكها بما معك من القرآن» فأما حديث عبادة بن الصامت, أنه علم رجلاً من أهل الصفة شيئاً من القرآن فأهدى له قوساً فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «إن أحببت أن تطوق بقوس من نار فاقبله» فتركه, رواه أبو داود, وروي مثله عن أبي ابن كعب مرفوعاً, فإن صح إسناده فهو محمول عند كثير من العلماء منهم: أبو عمر بن عبد البر, على أنه لما علمه لله لم يجز بعد هذا أن يعتاض عن ثواب الله بذلك القوس, فأما إذا كان من أول الأمر على التعليم بالأجرة فإنه يصح كما في حديث اللديغ وحديث سهل في المخطوبة, والله أعلم. وقوله {وإياي فاتقون} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عمر الدوري, حدثنا أبو إسماعيل المؤدب عن عاصم الأحول عن أبي العالية عن طلق بن حبيب, قال: التقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله, وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله, ومعنى قول {وإياي فاتقون} أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق وإظهار خلافه ومخالفتهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه.

** وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرّاكِعِينَ
يقول تعالى ناهياً لليهود عما كانوا يتعمدونه من تلبيس الحق بالباطل, وتمويهه به, وكتمانهم الحق, وإظهارهم الباطل: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} فنهاهم عن الشيئين معاً, وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به, ولهذا قال الضحاك عن ابن عباس ـ ولا تلبسوا الحق بالباطل: لا تخلطوا الحق بالباطل, والصدق بالكذب. وقال أبو العالية ـ ولا تلبسوا الحق بالباطل ـ يقول, ولا تخلطوا الحق بالباطل, وأدوا النصيحة لعباد الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويروى عن سعيد بن جبير والربيع بن أنس نحوه وقال قتادة {ولا تلبسوا الحق بالباطل} ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام, وأنتم تعلمون أن دين الله الاسلام, وأن اليهودية والنصراينة بدعة ليست من الله, وروي عن الحسن البصري نحو ذلك, وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم, وروي عن أبي العالية نحو ذلك وقال مجاهد والسدي وقتادة والربيع بن أنس {وتكتموا الحق} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم (قلت) وتكتموا يحتمل أن يكون مجزوماً, ويحتمل أن يكون منصوباً, أي لا تجمعوا بين هذا وهذا كما يقال: لا تأكل السمك وتشرب اللبن, قال الزمخشري: وفي مصحف ابن مسعود وتكتمون الحق أي في حال كتمانكم الحق وأنتم تعلمون حال أيضاً, ومعناه وأنتم تعلمون الحق, ويجوز أن يكون المعنى: وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار إلى أن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع من الحق لتروّجوه عليهم, والبيان الإيضاح وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} قال مقاتل: قوله تعالى لأهل الكتاب {وأقيموا الصلاة} أمرهم أن يصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم {وآتوا الزكاة} أمرهم أن يؤتوا الزكاة أي يدفعونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم {واركعوا مع الراكعين} أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم, يقول: كونوا معهم ومنهم, وقال علي بن طلحة عن ابن عباس: يعني بالزكاة طاعة الله والإخلاص, وقال وكيع عن أبي جناب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: وآتوا الزكاة, قال: ما يوجب الزكاة ؟ قال: مائتان فصاعداً, وقال مبارك بن فضالة عن الحسن في قوله تعالى {وآتوا الزكاة} قال: فريضة واجبة لا تنفع الأعمال إلا بها وبالصلاة, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن أبي حيان التيمي عن الحارث العكلي في قوله تعالى {وآتوا الزكاة} قال: صدقة الفطر, وقوله تعالى: {واركعوا مع الراكعين} أي وكونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم, ومن أخص ذلك وأكمله الصلاة, وقد استدل كثير من العلماء بهذه الاَية على وجوب الجماعة, وأبسط ذلك في كتاب الأحكام الكبير إن شاء الله تعالى, وقد تكلم القرطبي على مسائل الجماعة والإمامة فأجاد.

** أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
يقول تعالى: كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب, وأنتم تأمرون الناس بالبر وهو جماع الخير, أن تنسوا أنفسكم فلا تأتمروا بما تأمرون الناس به, وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب وتعلمون ما فيه على من قصر في أوامر الله ؟ أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم, فتنتبهوا من رقدتكم, وتتبصروا من عمايتكم, وهذا كما قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر, ويخالفون, فعيرهم الله عز وجل, وكذلك قال السدي وقال ابنجريج: {أتأمرون الناس بالبر} أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة ويدعون العمل بما يأمرون به الناس, فعيرهم الله بذلك, فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة, وقال محمد بن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: {وتنسون أنفسكم} أي تتركون أنفسكم {وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة وتتركون أنفسكم, أي وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي وتنقضون ميثاقي وتجحدون ما تعلمون من كتابي, وقال الضحاك عن ابن عباس: في هذه الاَية يقول: أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة وتنسون أنفسكم, وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني علي بن الحسن حدثنا مسلم الجرمي حدثنا مخلد بن الحسين عن أيوب السختياني. عن أبي قلابة في قول الله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب} قال أبو الدرداء رضي الله عنه: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الاَية هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل سألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة أمروه بالحق, فقال الله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} والغرض: أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع, ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه, وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له, فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم, ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به ولا يتخلف عنهم كما قال شعيب عليه السلام: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الاَخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف, وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها وهذا ضعيف, وأضعف منه تمسكهم بهذه الاَية فإنه لا حجة لهم فيها, والصحيح: أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله, وينهى عن المنكر وإن ارتكبه, قال مالك عن ربيعة: سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال مالك: وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء ؟ (قلت) لكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية لعلمه بها ومخالفته على بصيرة فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم, ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك, كما قال الإمام أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي والحسن بن علي العمري, قالا: حدثنا هشام بن عمار حدثنا علي بن سليمان الكلبي حدثنا الأعمش عن أبي تميمة الهجيمي عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به, كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه» هذا حديث غريب من هذا الوجه. حديث آخر قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا وكيع حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد هو ابن جدعان عن أنس بن مالك رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار, قال: قلت من هؤلاء ؟ قالوا: خطباء أمتك من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون» ورواه عبد بن حميد في مسنده وتفسيره عن الحسن بن موسى عن حماد بن سلمة به, ورواه ابن مردويه في تفسيره من حديث يونس بن محمد المؤدب والحجاج بن منهال كلاهما عن حماد بن سلمة به, وكذا رواه يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة به, ثم قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم حدثنا موسى بن هارون حدثنا إسحاق بن إبراهيم التستري ببلخ مكي بن إبراهيم حدثنا عمر بن قيس عن علي بن زيد عن ثمامة عن أنس, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار, قلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم» وأخرجه ابن حبان في صحيحه, وابن أبي حاتم وابن مردويه أيضاً من حديث هشام الدستوائي عن المغيرة يعني ابن حبيب ختن مالك بن دينار عن مالك بن دينار عن ثمامة عن أنس بن مالك, قال: لما عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم تقرض شفاههم, فقال: يا جبريل من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم أفلا يعقلون. حديث آخر ـ قال الإمام أحمد: حدثنا يعلى بن عبيد: حدثنا الأعمش عن أبي وائل, قال: قيل لأسامة وأنا رديفه: ألا تكلم عثمان ؟ فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه, ألا أسمعكم إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من افتتحه, والله لا أقول لرجل إنك خير الناس وإن كان علي أميراً بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قالوا: وما سمعته يقول ؟ قال: سمعته يقول: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه, فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه, فيطيف به أهل النار فيقولون: يا فلان ما أصابك, ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه, وأنهاكم عن المنكر وآتيه» رواه البخاري ومسلم من حديث سليمان بن مهران الأعمش به نحوه وقال أحمد. حدثنا سيار بن حاتم حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يعافي الأميين يوم القيامة مالا يعافي العلماء» وقد ورد في بعض الاَثار: أنه يغفر للجاهل سبعين مرة حتى يعفر للعالم مرة واحدة, ليس من يعلم كمن لا يعلم. وقال تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب} وروى ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: «إن أناساً من أهل الجنة يطلعون على أناس من أهل النار فيقولون بم دخلتم النار ؟ فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم, فيقولون: إنا كنا نقول ولا نفعل» ورواه ابن جرير الطبري عن أحمد بن يحيى الخباز الرملي عن زهير بن عباد الرواسي عن أبي بكر الزهري عبد الله بن حكيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن الوليد بن عقبة فذكره, وقال الضحاك عن ابن عباس: أنه جاءه رجل فقال: يا ابن عباس, إن أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر, قال: أبلغت ذلك ؟ قال: أرجو, قال: إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل, قال: وما هن ؟ قال: قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} أحكمت هذه قال: لا, قال: فالحرف الثاني ؟ قال: قوله تعالى: {لم تقولون ما لا تفعلون ؟ كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} أحكمت هذه ؟ قال: لا, قال: فالحرف الثالث ؟ قال: قول العبد الصالح شعيب عليه السلام {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح} أحكمت هذه الاَية ؟ قال: لا, قال: فابدأ بنفسك, رواه ابن مردويه في تفسيره, وقال الطبراني: حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا زيد بن الحارث حدثنا عبد الله بن خراش عن العوام بن حوشب عن المسيب بن رافع عن ابن عمر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في ظل سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال أو دعا إليه» إسناده فيه ضعف وقال إبراهيم النخعي: إن لأكره القصص لثلاث آيات: قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} وقوله: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون} وقوله إخباراً عن شعيب: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب}.

** وَاسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الّذِينَ يَظُنّونَ أَنّهُم مّلاَقُو رَبّهِمْ وَأَنّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
يقول تعالى آمراً عبيده فيما يؤملون من خير الدنيا والاَخرة بالاستعانة بالصبر والصلاة, كما قال مقاتل بن حيان في تفسير هذه الاَية: استعينوا على طلب الاَخرة بالصبر على الفرائض والصلاة, فأما الصبر فقيل: إنه الصيام, نص عليه مجاهد, قال القرطبي وغيره: ولهذا يُسمى رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث, وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن جري بن كليب عن رجل من بني سليم عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال «الصوم نصف الصبر» وقيل: المراد بالصبر الكف عن المعاصي, ولهذا قرنه بأداء العبادات وأعلاها فعل الصلاة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبيد الله بن حمزة بن إسماعيل حدثنا إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه, قال: الصبر صبران: صبر عند المصيبة حسن, وأحسن منه الصبر عن محارم الله. قال: وروي عن الحسن البصري نحو قول عمر, وقال ابن المبارك عن ابن لهيعة عن مالك بن دينار عن سعيد بن جبير, قال: الصبر: اعتراف العبد لله بما أصيب فيه واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه, وقد يجزع الرجل وهو يتجلد لا يرى منه إلا الصبر. وقال أبو العالية في قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} قال: على مرضاة الله, واعلموا أنها من طاعة الله, وأما قوله: والصلاة, فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر كما قال تعالى: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} الاَية. وقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبد الله الدؤلي قال: قال عبد العزيز أخو حذيفة: قال حذيفة, يعني ابن اليمان رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم , إذا حزبه أمر صلى, ورواه أبو داود عن محمد بن عيسى عن يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار كما سيأتي, وقد رواه ابن جرير من حديث ابن جريج عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبيد بن أبي قدامة عن عبد العزيز بن اليمان عن حذيفة, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. ورواه بعضهم عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة, ويقال: أخي حذيفة مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم, وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة: حدثنا سهل بن عثمان العسكري حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال: قال عكرمة بن عمار: قال محمد بن عبد الله الدؤلي: قال عبد العزيز: قال حذيفة: رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي, وكان إذا حزبه أمر صلى. حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمع حارثة بن مضرب سمع علياً رضي الله عنه يقول: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح. قال ابن جرير: وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه مر بأبي هريرة وهو منبطح على بطنه فقال له: «أشكم درد» ومعناه أيوجعك بطنك ؟ قال: نعم, قال: «قم فصل, فإن الصلاة شفاء» قال ابن جرير: وقد حدثنا محمد بن الفضل ويعقوب بن إبراهيم, قالا: حدثنا ابن علية حدثنا عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه: أن ابن عباس نعي إليه أخوه قسم وهو في سفر, فاسترجع ثم تنحى عن الطريق فأناخ, فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس, ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة على الخاشعين} وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج: {واستعينوا بالصبر والصلاة} قال إنهما معونتان على رحمة الله. والضمير في قوله: إنها لكبيرة عائد إلى الصلاة, نص عليه المجاهد, واختاره ابن جرير, ويحتمل أن يكون عائداً على ما يدل عليه الكلام وهو الوصية بذلك, كقوله تعالى في قصة قارون {وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون} وقال تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} أي وما يلقى هذه الوصية إلا الذين صبروا, وما يلقاها أي يؤتاها ويلهمها إلا ذو حظ عظيم. وعلى كل تقدير فقوله تعالى: {وإنها لكبيرة}. أي مشقة ثقيلة إلا على الخاشعين قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني المصدقين بما أنزل الله, وقال مجاهد: المؤمنين حقاً, وقال أبو العالية: إلا على الخاشعين الخائفين, وقال مقاتل بن حيان: إلا الخاشعين يعني به المتواضعين وقال الضحاك: وإنها لكبيرة, قال: إنها لثقيلة إلا على الخاضعين لطاعته الخائفين سطوته المصدقين بوعده ووعيده. وهذا يشبه ما جاء في الحديث «لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه» وقال ابن جرير: معنى الاَية: واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب بحبس أنفسكم على طاعة الله وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر المقربة من رضا الله العظيمة إقامتها إلا على الخاشعين أي المتواضعين المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته. هكذا قال: والظاهر أن الاَية وإن كانت خطاباً في سياق إنذار بني إسرائيل, فإنهم لم يقصدوا على سبيل التخصيص, وإنما هي عامة لهم ولغيرهم, والله أعلم.
وقوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون} هذا من تمام الكلام الذي قبله, أي وإن الصلاة أو الوصاة لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم, أي يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة معروضون عليه, وأنهم إليه راجعون أي أمورهم راجعة إلى مشيئته يحكم فيها ما يشاء بعدله, فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء سهل عليهم فعل الطاعات وترك المنكرات, فأما قوله {يظنون أنهم ملاقوا ربهم} قال ابن جرير, رحمه الله: العرب قد تسمي اليقين ظناً, والشك ظناً, نظير تسميتهم الظلمة سدفة, والضياء سدفة, والمغيث صارخاً, والمستغيث صارخاً, وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده, كما قال دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنو ا بألفي مدججسراتهم في الفارسي المسرد
يعني بذلك: تيقنوا بألفي مدجج يأتيكم, وقال عمير بن طارق:
فإن يعبروا قومي وأقعد فيكموأجعل مني الظن غيباً مرجماً
يعني ويجعل اليقين غيباً مرجماً, قال: والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين أكثر من أن تحصر, وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية, ومنه قول الله تعالى: {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوه} ثم قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عاصم حدثنا سفيان عن جابر عن مجاهد: كل ظن في القرآن يقين أي ظننت وظنوا, وحدثني المثنى: حدثنا إسحاق حدثنا أبو داود الجبري عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد, قال: كل ظن في القرآن فهو علم, وهذا سند صحيح, وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} قال: الظن ههنا يقين, قال ابن أبي حاتم وروى عن مجاهد والسدي والربيع بن أنس وقتادة نحو قول أبي العالية, وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} علموا أنهم ملاقوا ربهم كقوله {إني طننت أني ملاق حسابيه} يقول علمت وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (قلت) وفي الصحيح: أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة «ألم أزوّجك ألم أكرمك ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول بلى فيقول الله تعالى «أظننت أنك ملاقي ؟» فيقول لا فيقول الله «اليوم أنساك كما نسيتني» وسيأتي مبسوطاً عند قوله تعالى {نسوا الله فنسيهم} إن شاء الله تعالى.

** يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِي الّتِيَ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّي فَضّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ
يذكرهم تعالى بسالف نعمه إلى آبائهم وأسلافهم, وما كان فضلهم به من إرسال الرسل منهم وإنزال الكتب عليهم وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم, كما قال تعالى: {ولقد اخترناهم على علم على العالمين} وقال تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم مالم يؤت أحداً من العالمين} قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {وأني فضلتكم على العالمين} قال: بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان, فإن لكل زمان عالماً, وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك, ويجب الحمل على هذا لأن هذه الأمة أفضل منهم لقوله تعالى, خطاباً لهذه الأمة {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم} وفي المسانيد والسنن عن معاوية بن حيدة القشيري, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله», والأحاديث في هذا كثيرة تذكر عند قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} وقيل, المراد تفضيل بنوع ما من الفضل على سائر الناس, ولا يلزم تفضيلهم مطلقاً, حكاه الرازي وفيه نظر, وقيل: إنهم فضلوا على سائر الأمم لاشتمال أمتهم على الأنبياء منهم, حكاه القرطبي في تفسيره, وفيه نظر, لأن العالمين عام يشمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء, فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم, ومحمد بعدهم وهو أفضل من جميع الخلق وسيد ولد آدم في الدنيا والاَخرة, صلوات الله وسلامه عليه.

** وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ
لما ذكرهم تعالى بنعمه أولا, عطف على ذلك التحذير من طول نقمه بهم يوم القيامة, فقال: {واتقوا يوم} يعني يوم القيامة {لا تجزي نفس عن نفس شيئ} أي لا يغني أحد عن أحد, كما قال {ولا تزر وازرة وزر أخرى}: وقال {لكل امرى منهم يومئذ شأن يغينه} وقال: {يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئ} فهذا أبلغ المقامات أن كلا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الاَخر شيئاً, وقوله تعالى: {ولا يقبل منها شفاعة} يعني من الكافرين كما قال: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} وكما قال عن أهل النار {فما لنا من شافعين ولا صديق حميم} وقوله تعالى: {ولا يؤخذ منها عدل} أي لا يقبل منها فداء, كما قال تعالى: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به} وقال: {إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم} وقال تعالى: {وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منه} وقال: {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم} الاَية. فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا يرسوله ويتابعوه على ما بعثه به ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه فإنه لا ينفعهم قرابة قريب ولا شفاعة ذي جاه, ولا يقبل منهم فداء ولو بملء الأرض ذهباً, كما قال تعالى: {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} وقال: {لا بيع فيه ولا خلال} قال سنيد: حدثني حجاج حدثني ابن جريج قال: قال مجاهد: قال ابن عباس: {ولا يؤخذ منها عدل} قال: بدل, والبدل: الفدية, وقال السدي أما عدل فيعدلها من العدل يقول: لو جاءت بملء الأرض ذهباً تفتدى به ما تقبل منها, وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله: {ولا يقبل منها عدل} يعني فداء, قال ابن أبي حاتم, وروي عن أبي مالك والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك, وقال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه في حديث طويل, قال: والصرف والعدل التطوع والفريضة, وكذا قال الوليد بن مسلم عن عثمان بن أبي العاتكة عن عمير بن هانى وهذا القول غريب ههنا, والقول الأول أظهر في تفسير هذه الاَية, وقد ورد حديث يقويه وهو ما قال ابن جرير: حدثني نجيح بن إبراهيم حدثنا علي بن حكيم حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمرو بن قيس الملائي عن رجل من بني أمية من أهل الشام أحسن عليه الثناء, قال: قيل يارسول الله, ما العدل ؟ قال «العدل الفدية» وقوله تعالى: {ولا هم ينصرون} أي ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله, كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه, ولا يقبل منهم فداء, هذا كله من جانب التلطف, ولا لهم ناصر من أنفسهم ولا من غيرهم, كما قال: {فما له من قوة ولا ناصر} أي أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة ولا ينقذ أحداً من عذابه منقذ, ولا يخلص منه أحد, ولا يجير منه أحد, كما قال تعالى: {وهو يجير ولا يجار عليه} وقال: {فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد} وقال: {مالكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون} وقال: {فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة بل ضلوا عنهم} الاَية, وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {مالكم لا تناصرون} مالكم اليوم لا تمانعون منا, هيهات ليس ذلك لكم اليوم, قال ابن جرير: وتأويل قوله: {ولا هم ينصرون} يعني أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر كما لا يشفع لهم شافع, ولا يقبل منهم عدل ولا فدية, بطلت هنالك المحاباة, واضمحلت الرشى والشفاعات, وارتفع من القوم التناصر والتعاون, وصار الحكم إلى الجبار العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء, فيجزي بالسيئة مثلها, وبالحسنة أضعافها, وذلك نظير قوله تعالى: {وقفوهم إنهم مسئولون * ما لكم لا تناصرون ؟ بل هم اليوم مستسلمون